الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
يعني العلم شيءٌ شريف فهل يخصُّ به أحداً دون أحد؟ فكان الباب الأول في الفرق بين الفَطِن الذكي والبليد الغبي. وهذا البابُ في الفرق بين الشريف والوضيع. 128- قوله: (إلا حرمه الله) واستشكله الناس. فإن ظاهره يدلُ على أنه لا حاجة للنجاة إلى سائر الفرائض، بل تكفي لها كلمةُ التوحيد فقط فحملَهُ بعضهم على زمنٍ قبل زمان نزول الأحكام. فإن مدارَ النجاة إذ ذاك كان هو التوحيد فقط. فعند مسلم في باب الرخصة في التخلف عن الجماعة، عَن عِتْبان: فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله. وفي الرواية التي بعده قال الزُّهرى: ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور، نرى أن الأمر انتهى إليها، فمن استطاعَ أن لا يغير فلا يغير. قلت: وهو بعيد جداً، فإن الراوي معاذ بن جبل وهو أنصاريٌّ، ولا يمكنُ عدم نزول حكم إلا ورودَهم في المدينة، زادها الله شرفاً. وبعضهم قَسَم النار أي: نار الكفار ونار عصاة المؤمنين وحملوها على الأول. أقول: وتقسيمُ النار وإن كان صحيحاً في نفسه لكنه لا يصلحُ شرحاً للحديث. وقد صح في الأحاديث اختلاف أنواع العذاب. أقول: والصواب عندي أن الائتمارَ بالطاعات والانتهاء عن المعاصي مراعى ههنا أيضاً وإن حذف ذكره من العبادة، لأن الشارعَ لما فرغ من ذِكرها مرة وتفصيلها باباً باباً، والترغيب فيها طاعة طاعة، والتحذير عنها معصية معصية، فقد استغنى عن تكريره في كل موضعٍ، لأنه بيَّنَ وأكَّد لسليم الفطرة أن هذه الأشياء أيضاً دخيلة في النجاة عنده، فلم تبق له حاجة إلى القيود في كل مرة، وهو الطريقُ المسلوكِ في العرف، فإنهم يرون المعلوم كالمذكور، وإنما يستوفون الكلام فيما يتعسر انتقال الذهن إليه. وإنما خصَّ الكلمةَ من بين سائر الأجزاء لكونها أساساً وأصلاً ومدارٌ للحياة الأبدية، فهي المؤثرة حقيقة. والأعمال وإن كانت دخيلة في تحريم النار، إلا أن المُؤَثِرة فيها هي تلك الكلمة. ثم تلك الكلمة وإن كانت هي المؤثرة، لكنها لا غنية بها عن تلك الأعمال. فالحاصل أن تحريم النار وإن دار بالمجموع لكنه خُصَّ من هذا المجموع ما كان أهم من بينها، وهو تلك الكلمة كالأصل للشجرة، فإنه لا حياةَ لها بدون الأصل. ثم إن هذه القاعدة مُطَّردةٌ في جميع ما ورَدَ فيه الوعد والوعيد، فلا يتعرضُ فيه إلى وجود شرط ورفع مانع، فإنه يكون عنده ملحوظاً على كنهه. وإنما يذكر الكلام مرسلاً لظهوره. ثم اعلم أن من فطرةِ الإسان أنه يجعلُ كلياتٍ من عند نفسه، وليس هذا إلا لعدم إحاطته بأطراف الشيء وجوانبه، وليس حال العامة كالطبيب، فإنه إذ يحكم على دوائه بأنه مفيد أو مضر، لا يحكم إلا بظنه الغالب، لكن إذا جاءَه واحدٌ من الأغبياء يجعله كلياً ويزعمُ أنه مفيد أبداً ولا يمكن عنده خلاف ذلك، حتى إذا تخلَّف عنه الحكمُ مرةً يسبُّ الطبيب ويكذبُهُ، ولا يدري أنه لا يسبُّ إلا نفسه. فكذلك إذا أخبر الشارع عن أشياء غائبة وإن كان حكمُهُ عليها قطعياً، لكن تكون هناك شرائطَ وموانعَ معتبرة عنده، فيجيءُ واحدٌ من الأشقياء ولا يُراعي تلك الشرائط والموانع ويجعلُ الكلامَ المرسل كلياً. ثم إذا تخلَّف عنده الحكم يضطربُ ويقلقُ، فلا يلومن إلا نفسه. ولما كان حالُ الإنسان بين طرفي نقيض فقد يتداوى بدواء ويكون عندَه أنه نافعٌ قطعاً فلم ينفعه، فإنه لا يكذبُ نفسه، ولا يلزمُ الطبيب، ولكنه يعللُ تارة بأن الدواء كان رديئاً، أو لم يستعمله على وجهه، أو عدم حمايتِهِ نفسَه عن المضرات. ولكنه إذا مر على آية من آيات الله أو حديث من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلّم ويبدو له فيه قلقٌ، فإنه لا يتعللُ بشيء ولا يطمئنُ قلبه بحال حتى يكونَ أولَ كافرٍ به. {قُتِلَ الإِنسَنُ مَآ أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) فلا يخلو حالُهُ إلا من حُمق جلي، أو نفاق خفي. والجواب الآخر: أن الشارع ذكر الخواص على طريق «التذكرة» دون «القرابادين» والتذكرة في مصطلح الطِّب: ما تذكر فيها خواص المفردات. والقرابادين: ما تذكر فيها خواص المُرَكبات. فحكمُهُ على العبادات وذكر خواصِّها على طور التذكرة فقط، ولا يمكنُ غيره في الدنيا، فإن التركيبَ لا يحصلُ إلا بعد انصرام العالم، فحكمه أيضاً لا يظهر إلا هناك. وهذا كالطبيب يحكمُ على المفردات أن هذا سُمٌّ، وهذا تِرْيَاقٌ، وهذا مُسهِّلٌ، وهذا قَابِضٌ، ثم إذا ركَّب دواءً من الأشياء الحارة والباردة معاً وكسر هذا سورة هذا، يخرج من بينها مزاجٌ ثالثٌ مع وجود الدواء الحار والبارد فيه ولا يأتي فيه قال وقيل، ولا يكذبُهُ أحدٌ لأنه ما كان ذكر من حرارته وبرودته إنما كان حاله بانفراده، فإذا مزج أحدهما بالآخر خرج منه مزاج آخر. وهكذا كلمة التوحيد فإنها تحرِّم النارَ بلا مِرية ولا فرية، إلا أنها إذا خالطتها المعاصي ماذا يصير مزاجه، فالله أعلم به. نعم، إن غلبت آثار الكلمة على المعاصي جرَّته إلى الجنة، وإن كان غير ذلك فالعياذ بالله. وإذا علمت أن المزاجَ المركبَ لا يحصلُ إلا في الآخرة، علمت أن مطالبةَ «القرابادين» في الحالة الراهنة جهلٌ وسَفَهٌ، وكأنه استخبارٌ عن أمرٍ لم يوجد بعد ومآلهُ الاطلاع على التقدير. وكذا المنعُ من بيان «التذكرة» أيضاً حمقٌ وغَبَاوةٌ، فإن في عدم الذكرِ مطلقاً ضررُ الأمة، فإنه وإن لم يحصل عندها بالتذكرة العلمُ التام لكنه لم يبق مجهولاً مطلقاً أيضاً وحصل نحو من العلم. فإن قلتَ: ففي ذكر «التذكرة» بعض حرج وإشكالات. قلت: لا إشكالَ فيها للفطرة السليمة والجاهل بمعزل عن النظر، وبمثله ينحل حديث الكفارات. فإن الصلاةَ إلى الصلاة مثلاً لما صارت كفارةً ولم يبق له ذنبٌ، فماذا تصنع المكفرِّات الأُخر. وحله: أن مجموعَ المكفرات دخيلة في مجموع المعاصي، ولا يحصل هذا المجموع إلا في الآخرة. ولكن الشارع لما أراد الاطلاع على قطعة قطعة، جاء التعبيرُ كما ترى. قوله من كان آخر كلامه وليس المرادُ من الكلمة ههنا ما كانت على طريق العقيدة، بل هي عملٌ من الأعمال الصالحة وحسنةٌ من حسناته، أجرُها عند الرحيل هو النجاة، فهذه فضيلةٌ لمن جرت تلك الكلمةُ على لسانه. ولما كانت على طريق الأذكارِ دون الإِيمان فلا يحكم بالكفرِ على مَنْ لم تجر تلك الكلمة على لسانه. ومعنى الآخرية أن لا يجري على لسانه بعدها شيء من كلام الدنيا، فمن قالها وأغمى عليه ليلاً مثلاً ومات فيه ولم يفق، فإِنه يُرجى له هذا الأجر الموعود إن شاء الله تعالى. قوله: (إذاً يْتكلوا) قد يسبقُ إلى الأذهان أن المرادَ منه الإتكالَ عن الفرائض، لأن الكلمةَ المجردة إذا صارت كفيلةً للنجاة فلم تبق حاجةٌ إلى الأعمال الأُخر. وليس بمراد قطعاً بل المرادُ الإتكال من فضائل الأعمال وفواضلها، لأن الإِنسانَ أرغبُ في دفع المضرة من جلب المنفعة، فإِذا علم أنَّ الكلمةَ والفرائض تكفي له لدفع النار، ذهب يقنع عليها، ويتكاسل عن النوافل، ولا يسابق إلى المدارج العليا. وقد حكى الله سبحانه عن فطرته تلك بقوله: {الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الخ}(الآنفال: 66) فالإِنسان لا يزالُ مجتهداً في آخرتِهِ، فإِذا تيقنَ نجاته فتر. وهذا أمرٌ مركوز في خاطره، ولذا منعه النبي صلى الله عليه وسلّم عن إخباره لأن الاكتفاءَ بالفرائض والافترارَ عن الفضائل نقيصةٌ لهم وحِرمان عن الطبقات العُلى، فأحب أن لا يتكلوا ويجتهدوا في معالي الأمور، لأن الله تعالى يحب معالي الهمم، وقد مدح حسان النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: له هممٌ لا مُنتَهى لكبارها *** وهمته الصغرى أجل من الدهر والدليل على أن المراد من الإتكال هو الإتكال عن الفرائض وأنه في طلب الدرجات ما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان، وصلى الصلاة، وحَجَّ البيَت لا أدري أذكرَ الزكاة أم لا؟- إلاّ كان حقاً على الله أن يغفرَ له إن هَاجَرَ في سبيل الله، أو مكث بأرضه التي ولد بها» قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ذر الناسَ يعملون فإِن في الجنة مئة درجة.. والفِردوسُ أعلى الجنة... فإِذا سألتم الله فاسألوه الفِردوس. ففيه ذكرُ الفرائض أيضاً والتحريض على الدرجة العليا، فانكشف أنه لم يَردْ في الحديث المجمل الإتكال عن الفرائض. وأن الحديث لا يختصُّ مرادهُ بكونه قبل نزول الأحكام. كيف وترك الفرائض لا يُرجى من عوام الناس؟ شأن الصحابة رضي الله عنهم أرفع. وعند الترمذي عن معاذ أيضاً قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه نحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال لقد سألتني عن عظيمٍ وإنه ليسيرٌ على من يسَّرَه الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتأتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت»... إلخ. ففيه أيضاً ذكر الفرائض بتمامها. وأيضاً عند البخاري وهو وإن كان عن أبي هريرة لكن المضمون واحد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة، جاهدَ في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله أفلا نُبشر الناس؟ قال: «إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله». فتبين من هذا: أن الحديث لم يردْ في القَدَر المُتحتم، وإنما أراد اتكالهم عن الفضائل والفواضل. والحاصل: أن هذا الوعدَ إنما هو بعد لحاظ جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ثم الإتكالُ فيما وراء ذلك. ولما أراد أن يبشر به الناس أبهمَ في الشروط وتركَ استيفاء الأمورِ، فإِن البشارة باب آخر، والمناسب لها الإِجمال والإِبهام.
لما ورد الحديث في الطرفين فحديث ابن عمر رضي الله عنه يدُل عل حُسنِهِ، وحديث عائشة رضي الله عنها علي قُبحه، قسمه على الحالات وجعله في بعض الأحوال حسناً وفي بعضها قبيحاً، فإِن الحياء إذا كان عن تحصيل علم فهو مذموم، وإن كان كما استحى ابن عمر رضي الله عنه فهو ممدوحٌ، فإنه لم يتبدل بسكوته حلال أو حرام، ولكن فاتته فضيلة بالحضرة النبوية عليها الصلاة والسلام، ولعله يؤجر عليها في الآخرة. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في جواب سائل: ما بخلت بالإِفادة ولا استحييت من الاستفادة. وعن الأصعمي: ذِلة السؤال خير من ذلة الجهلة مُدَّة عمره. 130- قوله: (إن الله لا يستحي) وقد تأول الناس فيه، وإني لا أتأخرُ عن إسناد أمر أسنده الله سبحانه وتعالى بنفسه إلى نفسه، ولكن أكِلُ علمَ كيفيته إلى الله عزّ وجلّ. ولا أقول كما قال البيضاوي: إن الرحمة عبارة عن رقة القلب فإِسنادها إليه تعالى مجاز. ويا للعجب فإِن الرحمة إذا كان إسنادُها إلى الله تعالى مجازاً فإِلى مَنْ يكون حقيقة؟ 130- قوله: (أوتحتلم المرأة؟) واعلم أنه احتُلف في الاحتلام في حق الأنبياء، والحقُّ إنه يجوز في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلاّ أنه يكون لامتلاء كِيَسَة المنى ولا دخل فيه للشيطان. وما نقل عن محمد رحمه الله تعالى: أن لا غُسل على المرأة إذا احتلمت، فتأويلُه أنه إذا لم يخرج من عضوها الداخل إلى الخارج. 130- قوله: (بم يشبهها؟) وفسروا العُلُو تارةً بالغلبة، وأخرى بالسبق.
وجه الاستحياء مذكور في لفظ الحديث هو قوله: «لمكان ابنته تحته» وهو معنى صحيح. 132- قوله: (فأمرت المقداد) أي للسؤال في حق نفسه. وسأل هو أيضاً، لكنه على طريق الفَرَض بدون التعرُّض إلى الواقعة لمن هي، فلا تناقض. 132- قوله: (ففيه الوضوء) وذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى أنّ الحديثَ من أحكام المذي دون الصلاة، فينبغي أن يكون الوضوءُ عقيب خروجه، لا عند القيام إلى الصلاة فقط. وهكذا نسبه الشوكاني في «النيل» إلى الحنفية أيضاً. قلت: ولا أترددُ في أن المطلوبَ عند الشرع هو إزالة النجاسات على الفور. والتلطخ بها زماناً مكروهٌ عنده قطعاً إلاّ أن أثرّه لمّا لم يظهر إلاّ عند القيام إلى الصلاة جاء الخمول في كتب الفقه كحكم الديانات، فإِنها قلما تُذكر في المتون وعامة الشروح. ووجهه أن الفقهاء عامة يتعرضون إلى بيان الفرائض والواجبات، وقليلاً ما يذكرون المُستحبات والسننِ الزوائد. ولما كان هذا النوع من الوضوء مستحباً عقيبَ خروج المذي، وواجباً عند القيام إلى الصلاة، لم يذكروه إلاّ عند القيام إليها. ثم إنه إن توضأ عقيبه وقام إلى الصلاة متصلاً يتأدى في زمنه الفرضُ أيضاً، وفي بعض طرقه: غسل العضو فقط،وفي بعضها: غسل الانثيين أيضاً، وفي بعضها: غسل المرفقين أيضاً، وتصدى المحدثون إلى إعلاله. قلت: هو صحيح ويحمل على الاستحباب. وما ذكره الطحاوي الغُسل للعلاج لا يريد به العلاج الطبي، بل انقطاع التقطير في الحالة الراهنة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلّم للمستحاضة أن تغتسلَ ولبعضها أن تجلس في المِرْكن. الكلام في الربط بين القرآن والحديث والفقه كيف هو؟ واعلم أن فهمَ الحديثِ والإطلاع على أغراض الشارع مما لا يتيسرُ إلاّ بعد علم الفقه، لأنه لا يمكنُ شرحُه بمجرد اللغة ما دام لم يظهر فيه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ومذاهب الأئمة بل يبقى معلقاً، لا يُدرى وجوههُ وطرقه، فإِذا انكشف ما ذهب إليه الذاهبون واختاره المختارون خفَّ عليك أن تختارَ واحداً من هذه الوجوه، وهو حال الحديث مع القرآن ربما يتعذرُ تحصيلُ مرادِهِ بدون المراجعة إلى الأحاديث، فإذا ورردت الأحاديث التي تتعلق به قُرُب اقتناصُ غرضِ الشارع. وهذا من غاية علوه ورفعة محله، بل كلما كان الكلامُ أبلغَ كان في اجتمال الوجوه أزيدَ، ولا يُفهم هذا المعنى إلاّ من عُنِيَ به. وأما الجاهل فيزعمه سهل الوصول لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ} (القمر: 17) إلخ ولا يدري أنه ليس تيسرُه على قدر ما فهمه، بل معناه أنه يشتركُ في تحصيل معناه والاستفادة منه الأعالي والأداني، لكنه يكون بقدر نصيبهم من العلم. وهذا من غاية إعجازه، يسمعه الجاهلُ ويأخذ منه علماً بقدره، ويَرَاه الفحولُ ويُفعِمون منه دِلاءً بقدر أفهامهم، بخلاف كلام الناس فإِنه إن كان ملتحقاً بأصوات الحيوانات فإِنه لا يَلتفِتُ إليه البلغاء، وإن كان في مرتبة من البلاغة لا يُدرِكُ مرادَه الجهلاء. وهذا كتابٌ بلغ في مراتب البلاغة أقصاهما ولم يزل سحاب علومِهِ مَاطِراً على كافة الناس، عقلائهم وسفهائهم سواء بسواء، وهذا معنى التيسير لا ما فهموه.
أي أن المسجدَ وأن بُنى للصلاة لكن العلمَ والفتوى أيضاً من أمور الآخرة، فيجوز أيضاً. والقضاء أيضاً يجوز عندنا دون الشافعي رحمه الله تعالى، لأنه ذكر وإقامةُ الحدِّ لا يجوز أنه من المعاملات، ويجوز تعليمُ الأطفال إذا لم يأَخذ عليه أجراً. 133- قوله: (إن رجلاً قام... الخ) خرج من المدينة يوم السبت وبيَّنَ مسائل الميقاتِ يوم الجمعة قبلَ السفر. 133- قوله: (يهل من ذي الحليفة) وفي «الموطأ» لمحمد أن المدني لو مر على ذي الخليفة وأحرم من الجُحفَة لا يكون جنايةً، فدل على أنه إذا أحرمَ من أبعدِ الميقاتين فلا جناية عليه بمروره على أقربه بدون الإِحرام، وهذه مسألةٌ لم تذكر في عامة كتب الفقه. قوله: (ذات عرق) قال الشافعية: إنها وقتها الفاروقُ الأعظم رضي الله عنه. وقلنا: بل وقتها النبي صلى الله عليه وسلّم من قبل، غير أنه اشتهر في زمن عمر رضي الله عنه، لأنه ظهرت الفتوح في زمنه وانتشرَ المسلمون في البلاد.
أي لا حرج فيه، بل هو من المحسنات. وإنما تعرَّضَ في الجواب إلى ذِكرِ ما لا يجوز ولم يتعرض إلى ذكر الجائزات لكونه أخضَرَ وأنفع. 134- قوله: (القميص) والضابطة فيه: أن كلَّ ثوبٍ مخيطٍ مُستمسِكٍ على الجسد بدون شد ولا يَلبَسه المحرمُ، وإن لم يجد الإِزار يجوزُ السراويل ويتخذه إزاراً، وإذا لم يجد النَّعلين يقطعُ الخفَّ أسفل من الكعبين. وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: الممنوع في الإِحرام الطيب، وفي الإِحداد الزِّينة. وراجع المسائل من الفقه.
الوضوء: هو الصفاءُ. والنُّور لغةً. وقد أخبرت الشريعة بِوَضاءَة أعضاءِ الوضوءِ في المحشر. قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ} قالوا: معناه إذا قمتم إلى الصُّلاة وأنتم محدِثون. ولا أقولُ بالتقدير بل أقول: معنى الأمر بالوضوء لمن كان محدثاً بالوجوب وإلا فعلى الاستحباب. ويجوز عندي دخول الفَرْضِ والمستحب تحت لفظٍ واحد وليس بمجاز. وإذا صح إطلاق الوُضُوءِ والصَّلاةِ على الفرض والمستحب فأي بأسٍ في إطلاق المشتقِ عليهما. والعجب من الرَّازي في «المحصول» حيث قال: إنَّ الصلاة حقيقةٌ في الفريضة ومجاز في النافلة. قلت: كلا، بل الحقيقة والمسمَّى في الصورتين واحدةٌ، وإنما الاختلاف بحَسَب الأوصاف وهي من الخارج، فينبغي أن يميز بين الشيءِ وأوصافِه الطارئة من الخارج. وإذا كانت حقيقتُها في الصورتين واحدة لزمَ أن يصحَّ إطلاق اللفظ عليهما حقيقة. ثم إنَّ الشريعة لم توجب عبادةً إلا وُضِعَ من جنسها نفلاً، وفي الفقه أن النذرَ إنَّما ينعقدُ فيما يكون من جنسِهِ واجب، فعُلم أن كلَّ نفلٍ من جنسه واجبٌ أيضاً، ومع هذا ذهب الرازي إلى أن لفظ الصلاة مجازٌ في التطوع. ثم كونُ الأمر للوجوب أيضاً لم يتحقق عندي، بل هو مشترك عندي كما هو رأى الماتُرِيدي، وراجع لتفصيله رسالتي «فصل الخطاب في مسألة الفاتحة خلف الإِمام». ثم إن هذه الآية وإن كانت آخرها نزولاً لكنها مما تقدم حكمها. أقول: وفي «سيرة محمد بن إسحاق» أن جبرائيل عليه السلام لما نزل بخمس آياتٍ من أوائل اقرأ، علَّمه الوضوءَ والصلاتين أيضاً، ومرَّ عليه الشيخ ابن حجر المكي الشافعي في «شرح المشكاة» وحسَّنه. قلت: وفي إسناده راوٍ تُكِلِّمَ فيه. وَجْهُ القِراءتين في آيةِ الوضوء على نحو المذهب المختار بعد إمعانِ نظرٍ، وإِعمال فكرٍ، وحَذَاقةٍ في الفنون العربية. قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} استدل بها الشيعة على جواز المسح بالأرجل على قراءة الجر، وهم لا يجوزون المسحَ على الخفين مع كونه مواتراً وتصدى لجوابهم علماءُ الأمة منهم: ابن الحَاجب والتَّفْتَازاني في أواخر «التلويح» وابن الهُمَام وآخرون. وما فتح الله عليَّ في بيان وجه قراءة النصب: هو أن قوله وأرجلكم بالنصف مفعول معه وليس عطفاً، وفرق بين واو العطف والتي للمفعول معه، فإِن العطف لبيان شَرِكة المعطوفِ والمعطوفِ عليه في أمر، نحو جاءني زيد وعمر، ومعناه: أنهما مشتركان في المجيء. وإن قلنا: وعمراً بالنصب فمعناه بيان مصاحبتهِ مع زيد في الجملة. أمَّا إنها في الفعل خاصة أو في أمر آخر، فأمر مَوْكُولٌ إلى الخارج على حد قولهم: إذا خلى وطبعه ولا يدل على الشركة أصلاً، وإن لزمتْ في بعض المواد فمِنْ تلقاءِ المادةِ لا من تلقاءِ المدلول. ثم المصاحبة معناها المقارنة: وهي قد تكون في الزمان كقولهم: جاء البَردُ والجُبَّاتَ بالنصب ليس معناه أن الجباتَ اشتركت في المجيء مع البرد وأن الجائي هو البرد والجبات، بل معناه أن الجائي هو البرد، ثم له مصاحبة مع الجبات مصاحبة زمانية. وأما إنه في المجيء أو الخياطة مثلاً فهو أمرٌ خارج عن مدلول المفعول معه. والمعنى: جاءَ البردُ وخِيْطت الجُبَّات في زمانه، فصاحَبَها زماناً، ولو كانت في الخياطة فجاء هذا وخيط هذا. وهذا أيضاً نوعٌ من المُصَاحبة. وقد تكون المصاحبة في المكان كقولهم: سرت والطريق، ليس معناه أن الطريق أيضاً سار كما سار المتكلم، فلا دَلالة فيه على الشَرِكة في الفعل، فإِنه لم يُسند السيرُ إليه، بل معناه أن السائر هو المتكلم، لكن الطريق قارنَهُ وصاحبهُ وبقي معه في آخر سيره، فكان مُصاحباً له مصاحبةً مكانية. وقد تكون بهما نحو قولهم: سرت والنيل، إذا اعتبرت جريَ الماء معك ساعة. وهناك أمثلة أخرى. منها قولهم: لو تركت الناقة وفَصِيلتَها لرضعتها، ليس معناه أن التركَ واقعٌ على الناقة والفصيلة كلتيهما، ليكون من باب العطف ولاشركة، بل معناه: لو تركت الناقة فقط وبقيت معها معاملة للفصيلة لرضعتها، كقوله تعالى: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} (المدثر: 11) لا يريد الشركةَ في الفعل، بل معناه ذرني فقط ثم انظر ماذا أفعلُ بهم. ونحو قول الشاعر: وكنتُ ويحيى كَيَدي واحدٍ *** نرمي جميعاً ونُرامي معاً لا يريد الشاعرُ الشركةَ في الكون فإِنه ليس بشيء، بل معناه كنت ويحيى مصاحباً معي، فالمراد هذا المجموع ثم كونهما كيدي واحد.4 وكقول الآخر: فكونوا أنتمُ وبني أبيكم *** مكان الكُليتين من الطِّحال وإنما قَطَعَه الشاعرُ عن إعراب ما قبله ونَصَبَهُ إعراضاً عن الشركة وإفادةً للمصاحبة كما قرره الرَّضي في قوله: للبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني *** أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفُوفِ فإِنه صرَّح أن نصبَ المضارع للقطع عن العطف ولإِفادة المصاحبة، وهو «واو» الصرف عندهم لصرفه عن حقيقتها التي هي العطف، لأن الشاعر إنما أراد أن لُبْسَ العباءةُ مُصَاحباً مع هذا أحبّ إليه، يعني هذا المجموع أحبّ إليه؛ ولا يريدُ أن هذا محبوبٌ وهذا أيضاً محبوب. ومرَّ عليه ابن هشام «في المغني» وقال: إن بعضهم أضافوا قِسماً آخر وسمَّوه «واو» الصرف كما في الشعر للبس عباءة الخ. ثم قال: ولا حاجة إليه، فإِنَّا نقدرُ الناصبَ ونقول: ولَلُبسُ عَبَاءةٍ وأن تَقرَّ عيني... إلخ. قلت: وليس الأمرُ كما زعمه لفسادِ المعنى. والوجه ما ذَكَره الرَّضي. ومن ههنا تبينَّ أن «الواو» في قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً} (المائدة: 17) ليس للعطف. ومعناه: أن الله إن أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابن مريم مع كون أمه ومن في الأرض في حمايته لا يملكُ أحدٌ أن ينقذه من الله. وليس الإِهلاك ههنا واقعاً على هؤلاء جميعاً، لأن المقصود هو إظهارُ القُدرةِ على إهلاك مَنْ جُعل إلهاً من دون الله وافترى عليه بالألوهية، ولو كان هؤلاء أعضاد آله، لا إهلاكُ من في الأرض. والفرق بين إهلاكِ المسيح عليه السلام في حال مُصَاحبةِ جميع مَنْ في الأرض وحمايتهم إياه وإهلاك جميع مَنْ في الأرض غير خفي، فإِن في الإهلاك الأول قوةً ليست في الثاني، فهو على حد قوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) فعجزُهم في حال المظاهرة أبلغُ من عجزهم في غير هذا الحال، فكذلك إهلاكُ جميع مَنْ في الأرض، وإن كان دليلاً على قُدرته على إهلاكِهِ أيضاً، إلا أن إهلاكه، مصاحباً جميع من في الأرض إياه، أدلُّ على قدرته من إهلاكه في غير هذا الحال، فإن القدرةَ في صورة إهلاك الجميع ضِمنني بخلافه في تلك الصورة. والحاصل: أن المسوقَ له في هذا الموضع هو بيانُ إهلاك من اتخذوه إلهاً وهو يَتِم بالمفعول معه ما لا يتم بالعطف كما علمت. وعلى هذا صارت الآيةُ قاطعةً قاهرةً على من تفَّوَه بوفاة المسيح وتمسكِ بهذهِ الآية، ودلت كالشمس في رَابعة النهار على أنه لم يمت وأنه حيٌ بعد. وأنه تعالى لو أراد إهلاكَه لم يَمْنعه أحدٌ، فعُلِم أنه لم يَهلِك، ولو كان هَلَكَ لكان ذِكْرُ هلاكِهِ أحرى من بيان القدرة فقط. ولمَّا لم يذكره مع داعيةِ المقام، عُلِم أنه لم يهلكِ بعد، وإلا لكان هلاكُه أفحَم للنصارى. ولكن الله سبحانه انتقل من بيان الهَلاك إلى بيان قدرتِهِ ثُمَّ صرَّحَ عليه في النساء وقال: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) فأعلن أنه لم يَمتُ ولو كان ماتَ لكرره في ردِّ الألوهية، مع أنَّه ذكر مخاضَ والدته وكونُه مولوداً كسائر الناس، إلا أن وِلادَتَه لما كانت بالنفخ على خلاف ولادة عامة الناس، نبَّه على هذا الأمر البديع، ليُعلِم أن الإِنسانَ لا يصيرُ إلهاً بكونه منفوخاً ومخلوقاً من غير الطريق المعروف، إنما هو إله يخلق كيف يشاء. ولذا جاءت تحمِلُه على يديها ليراه الناسُ أنه وُلِد كما يولد الناس؛ فانظرْ كيف ذَكَرَ وِلادتَه على أتم تفصيل، ولم يذكر وفاته ولو إيماءً مع كونه أدلُّ وأقطعُ لحجة الخصم، فهذه الآية حجة قوية لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها إن شاء الله تعالى. وإذا تحصَّلت الفرق بينهما، فاعلم أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب مفعولٌ معه، وليس لإِفادة الشَّركة. والمعنى: أن للرجلِ معاملة مع مسح الرأس، أما إنها معاملةُ المسح أو الغسل فهو مسكوت عنه. ثم أقول: إن «الواو» قد لا تكون للشركة في الحكم و تجيء للمصاحبة فقط مع اشتراكها في الإِعراب وأُسَمِّيها واو المعية. واستنبطته من كلام الرَّضي في قوله: لَلُبْس عبادةٍ... إلخ، وعلى هذا أمكنَ «الواو» في قراءة الجر أيضاً للمصاحبةِ دون إفادة الشركة. والحسنُ فيه أن الآيةَ جَعَلت الوجهَ واليدينِ في طرف، والرأس والرجل في طرف آخر، لأنهما نوعان يشتركان في بعض الأحكام ويختصانِ ببعضٍ آخر، كسقوط الرأس والرجل في التيمم. وأشار إليه ابن عباس رضي الله عنه، ولعله في «الفوز الكبير» أن الوجهَ واليدَ مغسولان ويُعتبران في التيمم، والرأسَ والرِّجلَ قد يسقطان في حكم الغسل، فلهذين حكمٌ ولهذين حكم، ولذا جُمعا في الآية عند بيان المسح. وفي تذكرة قديمة عندي أن اليد والوجه مغسولان في الأقوال كلها، بخلاف الرجل والرأس، فإن الشريعةَ تفردت ببيان وظيفتهما. وانحل به ما تعسَّر عليهم من قول ثُمَامة عند البخاري: آمنت مع محمد صلى الله عليه وسلّم فَفَهِمَ منه الشارحون أنه آمن معه مَعِيةً زمانية وليس بصادق، فاضطروا إلى التأويلات، ومراده أن ابتداءَ إيمانه قَارن وصَاحب مع بقاء إيمان محمد صلى الله عليه وسلّم فصحت المعيةُ، ولهذا الضيق استُشكَلت عليهم آية آخرى وهي: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} (الصافات: 102) وقالوا: إن «مع» يتعلق بالسعي لا بقوله: «بلغ». والحاصل: أن المعيةَ والمصاحبةَ تصدُقُ بالاقتران في الجملة، لا كما فهموه. وعند البخاري يكفيك الوجهَ والكفين بالنصب أيضاً من هذا الوادي، فإِنه مفعولٌ معه، فإِنه أدار الحكمَ على هذا المجموع ولم يُرد أن يحكمَ على كل واحدٍ على حدة. ثم اعرف الفرق بين قوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} وقولنا: وامسحوا رؤوسكم بدون الباء وهو الظاهر، لأن المسح متعدٍ بنفسه ومثل قوله: أوتره وأوتر به، وقرأ الفاتحة وقرأ بالفاتحة. وتعرض إليه الزمخشري تحت قوله تعالى: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25) مع كون الهز متعدياً بنفسه. وسنقرر عليه الكلام مفصلاً إن شاء الله تعالى في باب الوتر. وجملة الفرق هاهنا أنه لو قيل: وامسحوا رؤوسكم لكفي إمرارُ اليد بدون الماء أيضاً عن عهدة المسح، لأنه لا تعتبر فيه البِلة لغةً، فإِذا اعتبرت فيه المعهودية الشريعية، وهي إمرار اليد المُبتلة، صار لازماً واحتاج في تعديته إلى الباء. وحينئذ معنى قوله: {وَامْسَحُواْ} أي افعلوا فعل المسح، يعني المسح المعهود، فاقتصر على ما كان باليد المبتلة. ولعل العربَ لمَّا لم يكونوا يعتمُّون في عامة أحوالهم، جاء القرآن على عرفهم إذ ذاك وقال: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} ولم يتعرض إلى العِمَامة، ولذا عامةُ رواياتِ وضوئه صلى الله عليه وسلّم خاليةٌ عن ذكر المسح على العِمامة، ومتى كان معتماً تعرض هناك الراوي، كما عند أبي داود في بيان صفة المسح أنه مسح ولم يَنْقُض العِمامة. ثم إنه لا إجمالَ في الآية عندي في باب المسح كما قرره علماؤنا. والإقتصار على الربع، إنما هو لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلّم دونه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم دون الربُع لقلنا بفرضيته، وبفعله علمنا أن الفرضَ هو الربع، ولو كان الفرضُ هو الكلَّ لما تنزل إلى الربع، وكذلك لو كان الفرض دون الربع لتنزل عنه بياناً للجواز، فإِذا اقتصر على الربع ثم لم يتنزل عنه، ثبت أن هذا القدرَ هو الفرضُ. ولا شكَّ أن مذهبنا هو الأحوط في هذا الباب، حتى أن بعض الشافعية أيضاً أَقرُّوا بذلك. قوله: (قال أبو عبد الله)... إلخ وظني أن المصنف رحمه الله انتقلَ إلى بيان مسألةٍ أُصولية، وهي أن الزِّيادةَ بخبر الواحد تجوز. ولذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلّم قَدْر الفرض مع عدم ذكره في القرآن، وقد مر منا تحقيقه في المقدمة فراجعه. وحاصل المسألة عندنا: أن الزيادةَ بالخبر إنما تمتنعُ في مرتبة الرُّكنية والشرطية، أما في مرتبة الوجوب أو الاستحباب فلا، ولعل نظرَ الشافعية في أمثال هذه المواضع أن الحكم إذا كان قطعياً بنفسه لا تؤثر فيه ظنية الطريق، فخبر الواحد وإن كان ظنياً في نفسه إلا أنه طريقٌ لبلوغ الحكم القطعي إلينا فقط، فلا يكونُ مؤثراً في الحكم. ونَظَر الحنفية أن خبرَالواحد وإنْ كان طريقاً لعلم الحكم، لكنه لازمٌ ولا انفكاك عن هذا الطريق الظني في تحصيل هذا الحكم القطعي. وإذا امتنع انفكاكُ طريق العلم عن الحكم وَجَبَ أن يُؤَثِّر فيه. ولم تصح مراعاة الحكم في نفسه، فظنية الطريق تسري إلى الحكم لا محَالة وتجعله ظنياً البَّتة. وبعبارة أخرى: أن الشافعية ذهبوا إلى التجريد ونظروا إلى الحكيم في نفسه بدونِ ملاحظةِ حال الطريق، والحنفية لاحظوا الحكم وطريقُه، فلم يمكن لهم أن يحكموا على المجموع إلا بالظنية، فإِن النتيجةَ تتبع الأخسَّ الأرذل. وبعبارة أخرى: أن الشافعية جعلوا القرآنَ كالمتن والحديثَ كالشرع، فأخذوا المراد من المجموع، ونحن أخذنا القرآن أولاً ثم أَوجبنا العمل بالحديث ثانياً، فوضعنا هذا في مرتبتة وبعبارة أخرى أن الحنفيةَ يتخذون السبيل هو القرآن، إلا أنه لما ورد الحديثُ فيما سكت عنه القرآن يُخرِّجون له صورة العمل ويعملون به أيضاً، فكأنهم جعلوا حالَ القرآن مع الحديث كحالِ ظاهر الرواية مع النَّوادر. ومما يتعلقُ بموضوعنا هذا مسألةُ النَّسخ والتَّخصيص، والشيءُ بالشيءِ يُذكر. فاعلم أن المنسوخَ بعد نزول الناسخ يبقى قطعياً عندنا، بخلاف التخصيص فإِنه يَجعلُ العام ظنياً. ووجه الفرقِ أن المخصَّصَ يُصاحبُ العام زماناً، فكأنه لم ينعقد حجةً بعدُ حتى لحقه المخصَّصَ فأخرج عنه أفراداً، فيخطرُ بالبال خروج الأفراد الأُخر أيضاً لعلة مشتركة هناك. بخلاف الناسخ فإِنه يتراخى عن المنسوخ زماناً، فينعقدُ حجةً، فإِذا نزل الناسخ وكان المنسوخُ محكماً إذ ذاك وحجة، لم يؤثر فيه. وعليه يتفرع منعُ تعليل الناسخ دون المخصَّص، لأن تعليلَ الناسُ يستلزمُ أن يجوزَ إخراج أفرادٍ أُخرَ أيضاً، مع أن النصَّ لم يخرج إلا أفراداً معلومة، فيلزم المعارضة بالنَّص بخلاف المخصص.
قد يُتخايل أن نفي القَبولِ لا يستلزمُ نفي الصحة. فقال قائل: إن القبولُ يطلق على معنيين: الأول: ما هو المعروف. والثاني: ما يرادف الصحة. قلت: بل هو ضِدُّ الرد، فمنعناه أن الصلاةَ بدون الطهور مردودة ولا حاجة إلى التقسيم، لأنه انعقد الإِجماعُ على أن الطهارة شرطٌ لصحة الصلاة. نعم، في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة بعض شذوذٍ، فعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: أنَّه لا يسجدها على غير وضوء، إلا أن في الحاشية للشيخ أحمد علي السهارنفوري نقيضُه. أنه كان يسجدها على وضوء، فتردد فيه النظرُ أيضاً. أما في صلاة الجنازة فقد ذهب بعضهم إلى جوازها بدون طهارة. ولعل الوجهَ عنده خفاءُ لفظ الصَّلاة في صلاة الجنازة. والخفاءُ إنما يكون لنقص في المسمَّى أو زيادة فيه، فإِذا نَقَصَ شيءٌ من المسمَّى أو زاد فيه، يتردد فيه أنه بقي داخلاً في مسماه أو خرج عنه، كما قالوا في الطَّرَّار والنَّبَّاش: إنَّ الفظَ السارق خفيٌ فيهما، وكذلك ههنا خفيَ إطلاقُ الصلاةِ على صلاة الجنازة وسجدةِ التِّلاوة لمعنى النقص فيهما. أما سجدة التلاوة فظاهرٌ. وأما صلاة الجنازة فلعدم اشتمالها على الركوع والسجود. وذهب الفقهاءُ الأربعة والجمهور إلى أنها داخلة في مسمَّى الصلاة، وسجدة التِّلاوة من أخصِّ أركان الصلاة، فينبغي أن يشترطَ لها ما يشترط للصلاة. وما نُسب إلى مالكٍ رحمه الله تعالى من أن الصَّلاةَ بدون الطهور جائزة عنده فهو باطلٌ. 135- قوله: (ما الحدث) ولمَّا كان السؤالُ عنه حَال كوِنهِ في المسجد أجابَه: بالفُساء والضُّراط، لأنه قلَّما يقع في المسجد إلا هذان. ثم الحدثُ في المسجد عمداً مكروه تحريماً عندنا. وفي قول تنزيهاً كما في «شرح المُنية». وفي «طبقات المالكية»: أنه حرامٌ بتاً. والمعتكِفُ مستثنى عندي لمكان الضرورة. فائدة وراجع «الخير الجاري» وهو مِنْ تصنيف المُلا محمد يعقوب البمباني المحشي على «مختصر الحُسامي» وشرحه ملخص من العيني «والفتح». أخذ المطالب في العيني رحمه الله تعالى وأضاف عليه الفوائد في «الفتح» وأكثرُ اشتغالِ أهل الهند كان في الفلسفة والمنطق، وقليل منهم اشتغلَ بالفقه والأصول والحديث. فصنف الشيخ محمد عابد الهندي كتاباً في الفقه وكذا «فتاوي إبراهيم شاهي»، و«مجمع سلطاني»، «وخاقاني»، وليست بشيء ونحوها مطالب المؤمنين لعالِمٍ من لاهور، وقد بقي الاشتغال بالحديث في سلسلة الشاه ولي الله رحمه الله تعالى إلى ثلاثة أسباطٍ ثم انعدم.
والفضلُ ههنا بمعنى الفضيلة، وما بقي لا بمعنى الفضيلة فقط. واعلم أن الصلاة كانت في بني إسرائيل أيضاً. وعند النَّسائي: أنه فرضت عليهم صلاتان، لا كما في البيضاوي أنَّها كانت خمسين. وإذا ثبتت فيهم الصلاة فالأقربُ أن يكونَ الوضوءُ أيضاً. وقد ثبت في البخاري وضوء سارة. وعند الترمذي: «هذا وُضُوئي ووضوء الأنبياء مِنْ قبلي» فثبتَ الوضوء في الأمم السالفة في الجملة. وإذا اشتركَ الوضوءُ بيننا وبين الأمم، فما وجه اختصاص التحجيل بهذه الأمة؟ ولقائل أن يقول: إنَّ وضوءنا أكثر من وضوئهم، فإِنه فرض علينا خمسَ صلوات في اليوم والليلة، فازداد وضوءنا على وضوئهم. وقال قائل: إن التَّحْجيل والعُزَّة بسبب الإِطالة، ولعلها لم تكن في الأمم السالفة. قلت: وعلى هذا ينبغي أنَّ مَنْ لا يطيلَ غرتَه وتحجيلَه من هذه الأمة لا يحصلُ له نفسُ التحجيل والغرة يوم القيامة، مع أنَّ الأمرَ عندي: أن نفس التحجيل من آثار نفسِ الوضوء وإطالتُها من إطالته، فكون التحجيل من آثار الإِطالة غير مُسُلَّم عندي. ولم أجد في هذا الباب مع تتبُّع بالغٍ غيرَ ما في «حِلْية الأولياء»لإ لأبي نُعيم في صفات هذه الأمة: «متوضئين الأطراف». وفي التَّوراة: أني أجد في الألواح أمةً حمَّادين متوضئين... فاجعلها يا رب أمتي. وفي الدَّارمي عن كعب قال: «نجده مكتوباً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا فظٌ ولا غليظٌ ولا صخَّابٌ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمَّادون، يكبرون الله عز وجل على كل نَجْدٍ، ويحمدونه في كل منزلة، ويتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهمُ ينادي في جو السماء، صفُّهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دَويٌّ كدوي النحل، ومولده بمكة، ومهاجره بطَيْبة ومُلكه بالشام. ا ه. فعَلِمت أنَّ لوضوء هذه الأمة اختصاصاتٌ ليست في الأمم الماضية، فلذا صار وضوءُنا وصفاً مشتهراً بنا. وظني أن الوضوءَ في الأمم السالفة كان على الأحْدَاث، بخلاف هذه الأمة فإِنَّه عند الصلوات أيضاً، وهو معنى قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} (المائدة: 6) فالمطلوب من هذه الأمة الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن واجباً، لا عند الأحداث فقط. ولذا لا أقدِّرُ فيها: وأنتم مُحدِثون كما قدروه، فإِنه يختفي به رضا الشارع، وهو الوضوء لكل صلاة. وعند أبي داود: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر.. فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يَرى أنَّ به قوةً فكان يتوضأ لكل صلاة: فهذا دليل واضحٌ على أن المطلوبَ والمرضيَّ هو الوضوء عند كل صلاة، لا عند الأحداث فقط. واستحبه فيها فقهائنا أيضاً. وبالجملة إذا عَلِمْت أن الغُرَّة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، فإِذاً لا التباس بينها وبين الأمم السَّالفة، فإنَّ كل أمة تقوم مع نبيها، وإنَّما يحصلُ الالتباسُ لمن لم يكن يتوضأ من هذه الأمة، فإِنه لا تكون له هذه السيماء، فلعلهم يُحرَمُون عن الكوثر. فمن كان له شَغَفٌ ببيانِ الحِكَمِ في الأحكام الشرعية، فهذه حكمة الوضوء. وقد تكلم الناسُ في حكمة مسح الرأس وكلها لا تستندُ إلى رواية. وقد تبيَّن لي روايةٌ في هذا الباب أخرجها المُنذري في «الترغيب والترهيب» وحاصلها: أنَّ من كان مسح رأسَه في الدنيا لا يكون أشعثَ يوم القيامة، ويكون رأسُه ساكناً، وأمَّا غيره فيكون أشعثَ الرأس. وقد صنَّفَ العلماء في بيان الحِكم تصانيفَ منها: «القواعد الكبرى» للشيخ عزّ الدين الشافعي رحمه الله تعالى، وقِطعة منها موجودة عندِي ومنها: «حجة الله البالغة» للشَّاه ولي الله رحمه الله تعالى وغيرهما. ثم في الفقه إنّ إطالة التحجيل إلى نصف السّاق ونصف السّاعد. ولا أدري في الغرة غير ما عند أبي داود عن علي رضي الله تعالى عنه: «أنَّه توضأ حتى إذا فرغ من وضوئه أخذ غَرْفة من ماء وأفاضه على ناصِيتَهِ، حتى استنّ الماء على صدره ولحيته» واستشْكَلَ عليهم شرحه، فإِنّه في الظاهر زيادةٌ في المِرَار وهو ممنوع، فشرحه بعضهم أنه كان للتبريد أو غير ذلك. وعندي أنّه كان لإِطالة الغرة والله تعالى أعلم بالصواب.
وفصَّل المالكيةُ فيما إذا شكَّ في الصَّلاة في الوضوء وبعد الوضوء، وذكروا له حكماً حكماً. وأما عندنا فالأمر كما في الفقه. 137- قوله: (حتى يسمعَ صوتاً)... إلخ كنايةٌ عن تيقنِ الحَدَث، وإليه أشار البخاري في الترجمة وقد استوفينا الكلام في الفَرْق بين الكناية والمجاز في المقدمة، وهو مهمٌ فراجعه، وسيجيء أبسط منه في الشرح.
يريدُ به ضبطَ الغُسل في الوضوء شيئاً، وهو عسيرٌ، فأتىَ بلفظ التخفيف. وهو قد يكونُ باعتبار المياه، وقد يكون بحسب المِرَّار. 138- قوله: (نام حتى نفخ) والمراد من النوم، إمَّا نومُه خلال الصَّلاةِ النافلة، أو بعد الفراغِ عنها قبل سُنّة الفجر، وهو الظاهر. قوله: (توضأ من شن معلق) قال الحافظ: ولم يَغْسل النبي صلى الله عليه وسلّم يديه في هذا الوضوء. والمراد من غسل اليدين هو ما يكون إلى الرُّسغين في ابتداء الوضوء؛ ولا أدري من أين أخذه الحافظ رحمه الله تعالى. 138- قوله: (وضوءاً خفيفاً) والتخفيف في إسالة الماء والتقليل في المِرار. وقد ثبت عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ في تلك الليلة مرتين: مرة بعد ما أتى حاجته وأراد أَنْ ينامَ ولم يَغْسلْ فيه غير الوجه واليدين، ومرة أخرى حين قام إلى الصَّلاة، ولا أدري أي الوضوءين هو؟ ولعل التخفيفَ والتقليل راجع إلى الوضوءِ الأول، وترجمة المصنَّف رحمه الله تعالى ناهضةٌ على كِلا التقديرين. وعُلِم من هذا الحديث نوعٌ آخرَ من الوضوء، وهو بغسل اليدين والوجه فقط. وإنَّما حدث هذا النوعُ من صنيع القرآن، حيث أشار إلى المصاحبة بين الرأس والرجل، فإِذا سقط أحدهما في وضوءِ النَّوم سقط الآخر أيضاً، فانظر كيف انكشفت المصاحبة، وأنَّ لهذين حُكماً ولهذين حُكَماً، فإِذا غُسِلَ الوجهُ غُسِلت معه اليدان أيضاً، وإذا تُركت وظيفةُ الرأس تركت وظيفة الرِجْل أيضاً. ثم اعلم أن ما يأخذه القرآنُ في عُنوانه لا بد أن يكون معمولاً به أيضاً، ولو في أي مرتبة كان، ولا يكون نظرياً وعلمياً فقط كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) فإنه عُنوان عام لم يُردْ به التوجيه إلى كل جهة، ولكنَّه ليس علمياً فقط أيضاً، بل ظهر به العمل في حق النافلة، وكقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى} (طه: 14)، فإن ظاهره أن تنحصرَ الصَّلاةُ في الذكر، وهو وإن لم يكن معمولاً به في جميع الأحوال، لكنه ليس عقلياً صِرفاً، بل عُمِل به في صلاة الخوف كما نُقِل عن الزهري: أنه إذا تعذَّرت عليه الصلاةُ في الخوف كفى له التكبير. وكما في الفقه أنَّ الحائض تتوضأ وتجلس في وقت صلاتها وتذكر الله عز وجل. فهذا كله عَمَلٌ بعنوان القرآن ولو في مرتبة. والحاصل: أنه لا بد لعنوان القرآن أن يبقى معمولاً به ولو في أي صورة وأي مرتبة، ولمَّا جَعَلَ القرآنُ الوجه واليدين في طرف، والرأس والرِجْل في طرف- مع كون الرجل مغسولاً- لا بد أن يظهرَ لهذين حكمٌ خاصٌّ ولهذين أيضاً. وهو الذي ظهر به العمل في النَّوم والتيمم. وما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عند مالكٍ في الوضوء للجنابة من مسح الرأس بدون غسل الرجلين، فغير مُسلَّمٌ عندي ما لم يَثْبُت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه جمع الثلاثة وترك الرابع، فينبغي أن يُحملَ على الوضوء الكامل، يعني مع غسل الرجلين أيضاً، واختصره الراوي. 138- قوله: (فحوَّلني فجعلني عن يمينه) وصورته ما عند مسلم فأخذ بيدي من وراء ظهرهِ يعدلُني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن، وهذا يفيدُك في أنَّ الكراهةَ إذا طرأت في خلال الصَّلاة يجبُ رفعُها فيها. 138- قوله: (ثم صلى ما شاء الله) وقد علمت اختلافَ الروايات فيه. قوله: (ثم اضطجع) وفيه تصريح بالاضطجاع. واختُلف في كونه بعد صلاة الليل أو بعد سُنَّة الفجر وليس بسُنَّة؛ ومن اضطجع اتباعاً له صلى الله عليه وسلّم يَحْصُل له الأجر إنَّ شاء الله تعالى، ولكنه ليس من السُنَّة في شيء. وتفرد ابن حزم حيث جعله شرطاً لصحةِ صلاة الفجر، ولا دليل له على ذلك، ولكنَّه إذا أَخَذَ جانباً شدد فيه. 138- قوله: (تنام عينه)... إلخ وهذا مِنْ باب الكيفيات كالكشف، إلا أنَّه في اليقَظَة، والمكشوفُ عليه يرى ما يراه الآخرون في اليقظة. وأما في ليلة التَّعريس فقد أُلقي عليه النَّوم تكويناً وفي الحديث: «إِني أُنَسَّى لأَسُن». 138- قوله: (رؤيا الأنبياء وحي) وقد مرَّ مني أنَّ رؤيا الأنبياء أيضاً يَحْتمل التقسيم الثلاثي. وعلى هذا لا حاجة لي إلى تأويلٍ في قوله: «إنْ لم يكُن من عند الله يمضه» في قِصة رؤياه في عائشة رضي الله عنها. وإنَّما أوَّلَها الشارحون لأنهم قَصَرُوا رؤياه على نحوين فقط، فافهم. 8ظ صلى الله عليه وسلّم- قوله: (ثم قرأ: ({إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ}) وقد مرَّ الكلام عليه تحت حديث الوحي، فراجعه.
وهو بالتقطير بين الإِسالة والإِسراف، وبالتثليث وبإِطالة الغُرَّة والتَّحْجِيل. 139- قوله: (ولم يُسِبعْ الوضوء) والمراد منه الوضوء الناقص، أو التقليل في المرات. وكَرِه الفقهاء تَكرَار الوضوء بدون تخلَّلِ عبادة أو تبدُّل مجلس، وقد ذكروه مفصلاً. ولا بأس في تكراره إن كان توضأ وضوءاً كاملاً أيضاً، فإِنَّه تبدل مجلِسُه صلى الله عليه وسلّم أو يقال: إنه لم يكن أسبغ وضوءَه أولاً، فلما بلغ جمعاً ووجد الماء أسبغَ فيه تحصيلاً لأكمل الطهارتين. وكثيراً ما نفعل مثله أيضاً، فنكتفي بالقدر الفرضي عند عِزَّة الماء، فإِذاً نجد الماء وتكون فيه سَعة نعيد الوضوء. لا يقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن أدَّى قدر الفرض أَوَّلاً لأنا نقول: إن قول الراوي: الصَّلاة يا رسول الله لا يلائمه، فإِنَّه يدل على أنه كان على وضوء يصح به الصَّلاة فالجواب ما ذكرنا. قوله: (الصَّلاة أمامك) وأَخَذَ منه الحنفية أن تأخيرَ المغرب في المزدلفة واجبٌ، لأنه أخر المغرب بلا وجهٍ وجيه، فإنَّ الدفع إلى المزدلفة لا يكون إلا بعد غروب الشمس، فإِذا لم يُصلِّ المغرب مع حضور وقتها، عُلِم أن وقتَ تلك الصلاة تحولَ وقتها المعروفِ وصار وقته ووقت العشاء واحداً في هذا اليوم، وهو معنى قوله: «الصَّلاة أمامك» يعني ليس وقته ههنا. بخلافِ تقديم العصر في عرفة، فإِن، له وجهاً ظاهراً، فشرطوا له شروطاً وقصروه على مورِد النص ولم يوجبوه، فلا يَجْمع في عرفة إلا من يصلى مع الإِمام بشرائطه. أما في الجُمع فيجمع كل من يصلى منفرداً كان أو مصلياً بالجماعة. ووجه تقديم العصر وتأخير المغرب ترجيحُ العبادة الوقتية، فإِنَّه لما تعارضت العبادتان الصلاة والوقوف وسَّعت الشريعةُ للوقتية ورجحتها على ما كانت وقتها العمر كله. وفَهِم الحنفية أنَّ هذا الجمع ليس أمراً بديعاً، بل هو على شاكلته المعروفة، فحملوه على الجمع للسفر وأنكره الآخرون وحملوه على الجمع للنُسُك. ثم مِنْ مسائل الجمع الثاني أنه لو صلى أحدٌ المغربَ في عرفة يُعيدها قبل طلوع الفجر من يوم النَّحر، فإِن لم يعدها حتى طلع الفجرُ فإِنَّه لا يُعيدها بعده. وهذه المسألة أيضاً من فروعِ مسألة جوازِ الزيادة بالخبر، فإِنَّه ثبت بالنص القاطع أداءُ الصَّلاة في أوقاتها، وأنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. ومقتضاها اعتبار الصَّلاة التي صُليت في وقتها وعدم إيجاب القضاء عليه. ثم جا خبر الواحد في إيجاب تأخيرها عن وقتها، ومقتضاها إيجاب الإِعادة إن صليت في وقتها المعروف، فلو جَوَّزنا الإِعادةَ بعد الطلوع أيضاً بطلَ عموم الآية الوقتية رأساً. فقلنا: إنَّه يعيدُها إلى طلوع الفجر لأجل الخبرِ والليلُ باقٍ، ولا يُعيدها بعده لأجل النَّص القاطع، فإِنَّه قد صلاها في وقتها فينبغي أن تعتبر بالنص أيضاً، وبه حصل الجمع بينهما، فلم نهمل الخبر بالكلية ولم نترك الآية بالكلية، بل راعيناهما بقدر ما أمكن. وبعبارة أخرى. إنَّ العمل بالظني- وهو خبر الجمع- إنما يمكن إلى وقت الطُّلوع فقط، لأنَّ وقتَ العشاء باق، فإن أعادها فيه حصل الجمع، وبعد طلوعه يفوت العمل بالظني ولا يمكن الجمع لفوات الوقت، فلا طائل في إيجاب الإِعادة بعده، فإِن قلنا بالإِعادة بعد الطلوع أيضاً لزمَ تركُ القاطع بفوات الظني، وهو غير معقول. ثم من مسائل الجمع أنَّه لا يُصلِّي بينهما نافلة ولا شيئاً كما في «المناسك» للعارف الجامي. ولم أر تلك المسألة في غير هذا الكتاب. وعند مُسْلِم: فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسْبَغ الوضوء، ثم أقيمت الصَّلاة فصلَّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً. وفي بعض الروايات: أنَّهم أناخوا بعيرهم بعد أداء الصلاة. ووجه التوفيق: أنَّ بعضَهم فَعَل كذا. وبعضَهم فعل كذا. ومن مسائله أن الجمعَ في المزدلفة بأذان وإقامة، إلا إذا وقعت الفاصلة بين الصَّلاتين، فإنَّه يقيم للثانية أيضاً كما مَرَّ في رواية مسلم.
الغُرْفة، كاللُّقمة، بمعنى اسم المفعول. والغَرْفة بالفتح للمرة، وهو الأفصح. 140- قوله: (فرشَّ على رجله اليمنى) وإنما عبَّر بالرشِّ لأنَّه ضَرَبَ بها على رجله وغسلها شيئاً فشيئاً. وعن ابن عباس رضي الله عنه عند أبي داود: «فأخذ حَفْنَة من ماءٍ فضَرَبَ بها على رِجلِهِ وفيها النَّعل، فَفَتَلَها بها ثُم، الأخرى مثل ذلك». ولعله في واقعة أخرى. وإنَّما نقلتها ليعلم أنَّه قد يحتاج إلى الرشِّ ولا يكفي الإِسالة.
واعلم أنَّه لم يذهب إلى وجوبِ التسمية أحدٌ من الأئمة، إلا ما نُقل عن أحمد رحمه الله تعالى في رواية شاذة، مع ما ثَبَتَ عنه في الترمذي: أنه لم يثبت في هذا الباب شيء. ولذا أقول: لا بدَّ أن يكون في الباب روايةٌ قابلة للعمل عنده، وإن كان في أدنى مراتبِ الحسن، وإلا لم تجىء عنه تلك الرواية. وتفرد الشيخ ابن الهُمَام منا واختار الوجوب وقال: إن الأحاديث فيه لِتَعَاضُدِ بعضها ببعض بلغت مرتبة الحُسن، فانجبر الضَّعفُ بتعدد الطرق. ولعل البخاري أيضاً اختار الوجوب كما اختاره رفيقه في السفر داود الظاهري. وكنت أرى أنَّه ليس رجلاً محققاً، فلما طالعت كتبَه علمتُ أنَّه عالمٌ جليلُ القدر رفيعُ الشأن. وإنَّما لم يسمَّ الوضوءَ لئلا يكون إشارةً إلى تحسين للأحاديث التي وردت في هذا الباب عنده. وحديث الترمذي ليس قابلاً عنده لترجمته أيضاً، فانْظُر رِفعة المصنِّف رحمه الله تعالى أنَّ ما يخرِّجُه الأئمة تحت أبوابهم لا يذكره المصنِّفُ رحمه الله تعالى في تراجمه، بل لا يحبُ أَنْ يشيرَ إليه أيضاً، مع أن في نيته إثباتُ التسمية عند الوضوء، إلا أنَّه لما لم يكن عنده حديث معتبر في هذا الباب خاصة تمسك من العمومات، وأدخلَ الوضوءَ تحتها، وضمَّ معه الجِمَاع، ليُعلم أن التسمية لما كانت مشروعة قبل الجماع، فأَن تكون قبل الوضوء أولى. فكأنَّه استدلال من النَّظائر. وقد يخطر ببالي أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى مع كثرة قياساته كيف يُنْكِرُ القياسَ؟ ثم ظهر لي أنَّه يعمل بتنقيح المناط. ولم يُنبه عليه أحد من الشارحين. فالحديث وإن ورد في جزئية واحدةٍ من الجماع لكنه بعد تنقيح المناط صار عاماً، فبوَّبَ بالتسمية في كل حال. قلت: والنَّظر المعنوي يحكمُ بوجوب التسمية في كل حال، فإِنَّ الشيطان لا يزالُ يراقب الإنسان، ولا يجدُ موضعاً إلا ويلقي النقيصةَ فيه فعند الغائط يلعبُ بمقاعِدِ بني آدم، ويَشْتَرِكُ معه في الجماع والأكل، ويُفْسدُ الأواني، ويقطع الصلاةَ إذا لم تكن بين يديه سترة، ويوسوس في الوضوء، ويجلس على خَيَاشِيْمِهِ عند النوم، ويَضْحَكُ منه إذا قال في صلاته: «ها» إلى غير ذلك من مفاسده التي أَخْبَر بها الشرع. والمخلَّصُ هو التسميةُ لا غير. ثم الذي يتضح: أنَّ الوجوب والحُرْمة لا يترتبان على الأنظار المعنوية، بل إنَّما يتعلقان بأمر الشارع ونهيه، فإِذا لحَقَهُ أمرُ الشارع أو نهيُه يكون واجباً أو حراماً. ولا شك أن الواجباتِ كلها تشتملُ على المنافع والمحرمات بأسرها على المضار، إلا أنَّه لا يلزمُ عكسه. ورُبَّ شيءٍ يكون مُضراً ثم لا يحرِّمُه الشارع شفقة على النَّاس ورحمة لهم، ورُبَّ شيءٍ يكون فيه منفعةً عظيمةً ثم لا يأمرُ به الشرع. نعم، يكون له صلوح للأمر، كالنوم حالة الجَنَابة، فإِنه لا تحضر جنازته ملائكة الله، وأي ضَرَرٍ أعظمُ منه؟ إلا أنه لم يوجب عليه غُسلاً تيسيراً له، وإنَّ الدين يُسرٌ. 141- قوله: (لم يضره) ويتعين في مثله الضم إذا لحقه ضمير، صرح به سِيْبَوَيهٍ، ولا يجري فيه الوجوه الثلاثة كما في: لم يمد. قيل: المراد من الضرر صَرَعُ الصبيان، لا يقال: إنَّا قد نشاهدُ المضرَّة مع قراءة التسمية أيضاً، لأنَّا نقول: هذا بيان لبركة اسم الله. ومع هذا هناك شرائط وموانع لم تذكر، فإذا تحققت التسميةُ بوجودِ تلك الشرائطِ وارتفاع الموانع لا يكون إلا كما أخبرَ به الشرع، ولا يتخلفُ عنه الحكم البتَةَ.
قد يُتوهم في أبوابه سُوءُ ترتيبٍ، فإنَّه أدخَلَ الاستنجاء خلال أحكام الوضوءِ، مع أن مقتضى الترتيب أن يذكرَها مقدَّماً على أحكام الوضوء. قلت: بل هو ترتيب حَسَنٌ جيدٌ، لأنَّه لما قدمَ الوضوءَ وكان هو الطريق المسلوك في تصانيفهم أراد أن يتعرض إلى حقيقة الوضوء شيئاً، فَذَكَرَ أولاً بعض أحكامِهِ لتعيين مِسمَّاه لا غير، كبحث الفقهاءِ أنَّ أيِّ قدرٍ من استعمال الماء يُسمَّى غَسْلاً، فذكر أولاً فضله وهو مقدمٌ على بيان الحقيقة. ثم توجَّه إلى بيانِ أنه شيءٌ لا يجبُ بالشك، ثم نزل إلى بيان التخفيف والإِسباغ فيه؛ ولا بحث فيه من الأعضاء الأربعة، لأنَّ التخفيفَ والإِسباغَ يجريان في عضو واحدٍ أيضاً. ثم تَعرَّض إلى غسل الوجه لمزيد تعيينها، حتى إذا بلغ إلى التسميةِ وتقررت حقيقتُه في الأذهان، انتقل إلى الترتيب الحسي، فذكر ما كان مقدَّما في الحس وهو آداب الخلاء، فهذه الأبوابُ تترى في بيان مُسمَّاه وتحقيقِ حقيقتِهِ، لا في بيان أحكام الوضوء. ثم إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أتى في المتابعة بلفظ: «أراد» إشارة إلى أنَّ هذا الدعاء إنما هو عند الإِرادة قبل دخول الخلاء، لا بعد الدخولِ فيه كما يتُوهم من ظاهرِ لفظه. قلت: ورَوى المصنِّف رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد» بلفظ: «إذا أراد الدخول». صراحةً.
|